تباين في الطرق المتخذة لإذلال الجزائر بين ماكرون ورئيس وزراءه
2025-03-07 20:10:00

<p>يبدو أن التهديدات التي أطلقها كبار المسؤولين في حكومة ماكرون مؤخرا ضد الجزائر والمتعلقة بإلغاء اتفاقيات الهجرة المبرمة بين البلدين سنة 1968 لم تكن مجرد تصريحات عابرة، بل وصلت لدرجة التنفيذ وطالت عدة شخصيات دبلوماسية جزائرية وعائلاتهم. <br />ففي الفاتح من مارس الجاري، أعطى وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، تعليمات لمصالح شرطة الحدود بطرد زوجة سفير الجزائر بمالي، إذ تم منعها من دخول التراب الفرنسي بحجة أنها لا تملك القدر الكافي من المال لتسديد مصاريف إقامتها.<br />ولم تكن هذه الحالة الوحيدة التي قوبلت بالطرد، تنفيذا للقرارات التي أصدرها رئيس وزراء فرنسا ووزير خارجيتها أواخر فبراير الفارط والتي تتعلق بفرض "إجراءات تقييدية على حركة ودخول الأراضي الفرنسية تطال بعض الشخصيات الجزائرية"، بل تعدت لتشمل شخصيات دبلوماسية أخرى، حيث تم منع المدير السابق للديوان الرئاسي الجزائري، عبد العزيز خلاف وشخصية أخرى رفيعة المستوى من الدخول للأراضي الفرنسية. <br />وفي أول تعليق له على هذه الإجراءات الخطيرة اتجاه المسؤولين الجزائريين، كشف برونو خلال مقابله مع صحيفة لوفيغارو في ٢ مارس، شروع بلاده في تنفيذ قرارات رئيس الوزراء، والتي تشمل منع الجزائريين الحاملين لجواز سفر دبلوماسي من الدخول إلى الاراضي الفرنسية. وأكد الأخير أن سلطات بلده طردت بالفعل جزائريين لدى وصولهم إلى مطار رواسي بضواحي العاصمة الفرنسية في سياق تفعيل هذه القرارات. <br />وأردف "هذا الرد التدريجي هو الأكثر فعالية، لأنه يسمح أولاً باتخاذ تدابير فردية، لا سيما ضد أعضاء من النخبة الجزائرية".<br />وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أطلق تصريحات خلال زيارته للبرتغال في ٢٨ الشهر الفارط، أشار من خلالها بأن اتفاقيات الهجرة بين البلدين "لا يجب أن تلغى ولكن يفضل مراجعتها مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون". ومع ذلك فقد وضع ماكرون شرطا أساسيا للتفاوض مع الحكومة الجزائرية حول هذه المسألة، والمتمثل في إطلاق سراح الكاتب الفرانكو- جزائري بوعلام صنصال الذي اعتقلته السلطات الجزائرية نوفمبر الفارط لتورطه في المساس بسلامة التراب الوطني. <br />ولم يكتفي وزير الداخلية الفرنسي بهذا القدر من الإستفزازات والإذلال اتجاه الجزائر، بل تعدى إلى إطلاق سلسلة من التهديدات خلال مقابلة له مع قناة “بي. آف. آم. تي.في” و”آر. آم. سي”، ٤ مارس من هذا الشهر، قال فيها أن بلاده أعدت قائمة تضم أسماء "مئات" من الرعايا الجزائريين ذوي "الملفات الخطيرة" ترغب باريس في إعادتهم إلى بلادهم، وأضاف بأن حكومته ستقوم بتسليمها لنظيرتها الجزائرية. كما هدد بفرض عقوبات صارمة على شركة الطيران الجزائرية "الخطوط الجوية الجزائرية" متهما إياها في التقاعس في ترحيل المهاجرين الغير شرعيين. <br />وتجدر الإشارة أنه عقب الإجتماع الوزاري الخاص بملف الهجرة، والذي انعقد 26 من فبراير الفارط، أعطى رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، الجزائر مهلة بين 4 و6 أسابيع لإظهار ليونة في قضية استقبال مهاجريها غير الشرعيين وإلا سيتم إلغاء اتفاقيات 1968 المنظمة للهجرة بين البلدين. <br />ومباشرة عقب تصريحات وزير الداخلية الفرنسية، واستنادا إلى ما أوردته “لوفيغارو” الاثنين الفارط، فإن الرئيس الفرنسي أكد في تواصل حصري معها، أن إلغاء اتفاقيات الهجرة مع الجزائر قرار يعد إصداره من صلاحيات رئيس البلاد فقط. <br />وقد أثارت تصريحات ماكرون انتقادات واسعة من جانب التجمع الوطني، الذي اتهم ماكرون بالفشل في اتخاذ إجراءات حاسمة ضد نفوذ الجزائر، مما أثار الشكوك لدى العديد من نواب البرلمان حول قدرته على قيادة البلاد. كما انتقد المتحدث باسم التجمع الوطني، سيباستيان شينو، نهج ماكرون الحذر، مؤكدا أنه من العار أن يخشى الرئيس رد فعل عنيف محتمل من الشتات الجزائري. <br />ودارت نقاشات حادة داخل البرلمان الفرنسي حول إيجاد أفضل السبل لتعزيز موقف فرنسا بشأن سياسة الهجرة، وخاصة بعد فشل الجهود لطرد التهديدات المتعلقة بالمهاجرين الجزائريين غير الشرعيين. <br />كما شككت أحزاب أخرى قدرته على إدارة سياسات الهجرة بشكل فعال، خاصة وأن الفشل في طرد الجزائريين المجرمين أدى إلى مأساة مولوز.<br />من ناحية أخرى، أعرب السيناتور ماكس بريسون عن إحباطه إزاء عجز الحكومة الفرنسية إلى اتخاذ تدابير حازمة تجاه الجزائر.<br />ويرى بعض الخبراء بأن تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة لا تهدف الى تهدئة الاوضاع بين البلدين كما تروج له بعض وسائل الإعلام الفرنسية، وإنما يسعى من خلالها لإظهار قدرته على التحكم في قرارات بلاده، خاصة بعد الانتقادات التي وجهت اليه في الأشهر القليلة الماضية والتي وصفته بالفاشل في تسيير أمور البلاد وخاصة قضية الهجرة. وأضاف نفس الخبراء، أن ماكرون يريد فرض شروطه على الحكومة الجزائرية من خلال إجبارهم على إسقاط التهم عن بوعلام صنصال، وهذا يمس بشكل كبير بسيادة الجزائر و كرامتها على الساحة الدولية.<br />وتأتي هذه التداعيات في سياق متواصل من أزمة سياسية ودبلوماسية حادة بين البلدين، بدأت في يناير/كانون الثاني 2023، بسبب رفض الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون زيارة باريس، وتفاقمت في يوليو/تموز 2024 بعد إعلان باريس دعم مبادرة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء، ما دفع الجزائر إلى سحب سفيرها من باريس وخفض التمثيل الدبلوماسي، وتعقدت أكثر بعد توقيف السلطات الجزائرية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال، ورفض الجزائر استقبال رعاياها المبعدين من التراب الفرنسي، بينهم منفذ هجوم أسفر عن مقتل شخص في 22 شباط/فبراير في مدينة مولوز في شرق فرنسا.</p> <p><strong>الدكتور محمد صادق .. الكاتب والباحث في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية</strong></p>
تبّون وعون والنيف الجزائريّ !
2025-07-27 13:07:00

<h3>كلمة “نيف” في الجزائر مشتقّة من الأنَفة، وتختصر كلَّ صفات العزّة والكرامة والترفّع. وهي إحدى ثوابت التاريخ والحاضر الجزائريّين، حتّى ولو أن المغالاة فيها قد يُسبب للجزائر بين حين وآخر مُشكلة هُنا وتوتّرًا هناك. وهي أيضًا من خصالِ الشخصيّة الجزائريّة، أكانت رئيس دولة أو رئيس حزب أو ضابطًا كبيرًا أو فلاحًا أو نادلاً في مقهى.</h3> <p> </p> <p>سيكتشف الرئيس اللُبناني جوزف عون الذي يصل هذا الثلاثاء الى الجزائر أنَّ في طباعِه الشخصيّة كثيرًا من النيف الجزائري دون أن يدري، فهو عُرف بصلابتِه في خلال تولّيه قيادة الجيش، وبعدم تنازلِه لمافيات السياسة التي استعبدت البلاد والعباد، حتّى ولو أن العنادَ في مواقفِه، كاد يحرمه من كُرسي الرئاسة، قبل أن يستقرّ الرأي الدوليّ والعربي عليه كأفضل خيار للمرحلة الحاليّة.</p> <p> </p> <p>من ينسى خطابَه الشهير أمام ضباط المؤسسة العسكريّة، حين رفع الصوت ضد ساسة لُبنان وحذّر من ضرب الجيش ومعنوياته. وهذا بالضبط ما يُسمّى بالنيف. سيكتشف الرئيس عون أيضًا، رئيسًا جزائريًّا مُحبًّا للُبنان، وراغبًا في توسيع نطاق مساعدته في الكثير من المجالات، دون أن يطلب من لُبنان شيئًا بالمقابل.</p> <p> </p> <p>فهذا دأبُ الجزائر منذ فجر استقلالها الذي صاغته بنضال شعبها وبملايين الشهداء والجرحى والمعوقّين، حيث لم تبخل يومًا بالوقوف إلى جانب لُبنان في كلّ أزماته، أكان ضدَّ إسرائيل أو في زلازله الداخليّة من الحرب الأهلية إلى تفجير المرفأ.</p> <p> </p> <p>حين كلّف الرئيس عبد المجيد تبّون، الدبلوماسي العريق والمثقف الموسوعي والكاتب الألمعي كمال بوشامة بمنصب سفير في لُبنان، أوصاه بأن يبذل كل ما يستطيع لمساعدة لُبنان في كل ما يحتاجه من مواد بناء، ومعدات وعتاد للجيش، ونفط، ومنح تعليميّة، وكلّفه ببناء أكبر صرح ثقافيّ جزائريّ في بيروت، انطلاقًا من قناعته بأن لُبنان كان وسيعود منارة ثقافية عربيّة وعالميّة.</p> <p> </p> <p>ولعلّ إقفال ملف الاتهام الظالم لشركة سوناطراك الجزائريّة في لُبنان سيُساهم في إعادة بواخر النفط، والإعلان عن استعادة الخطوط الجويّة المباشرة بين الجزائر وبيروت. لم تعرف الجزائر لغة المصالح مع لُبنان، لكنّ في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها في علاقاتها المتوترة مع فرنسا، ومع بعض الدول الأفريقية، ومع الجارة المغربية، وحتى مع روسيا وبعض الدول العربيّة، يحاول الرئيس تبّون أن ينوّع علاقات الجزائر الخارجيّة، فيوسّع نطاق الاتفاقات التبادلية والعسكريّة مع الولايات المتحدة ( تشكل حوالي 29% من الاستثمار الأجنبي المباشر في الجزائر لعام 2024)، خاصة في قطاع الطاقة البترولية، وكذلك مجالات الزراعة والتكنولوجيا والخدمات مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع روسيا، ويوقّع اتفاقيات استراتيجية مع الصين التي توسّع حضورها في الجزائر على حساب الحضور الفرنسي وباتت المورّد الأول الجزائري</p> <p> </p> <p>. وها هو الرئيس تبّون يهدي بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر غصن شجرة زيتون غرسها القديس أوغسطين في مدينة سوق أهراس شرق الجزائر. وهو بالمناسبة الرئيس العربي والإفريقي الأول الذي يلتقي البابا الجديد، وذلك بعد أن وقّع اتفاقات كُبرى مع إيطاليا التي باتت الشريك التجاريّ الأول للجزائر. الأنفة الجزائريّة تُريد من خلال هذه العلاقات ان تقول لفرنسا إنّها ليست بحاجة إليها، وإنّ البدائل كثيرة، وإنَّ باريس هي الخاسرة في تعميق التوتّر الذي بدأ بسبب إعلان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون موقفا داعمًا لسيادة المغرب على الصحراء، ووصل الآن الى حد تبادل التضييق على الدبلوماسيّين.</p> <p> </p> <p>ومع توتّر العلاقات مع بعض الدول العربية، شهدت الجزائر توسيعًا للعلاقات مع تركيا التي باتت بين كبار المستثمرين في الجزائر بإجمالي استثمارات يزيد عن 6 مليار دولار، كما أنَّ عدد الشركات التركيّة العاملة على الأراضي الجزائريّة تجاوز 1500 شركة تعمل خصوصًا في قطاعات البناء والطاقة والخدمات.</p> <p> </p> <p>ماذا يفيد لُبنان؟</p> <p> </p> <p>في هذا السياق بالضبط، قد لا يُشكّل لُبنان مصلحة تجارية أو استثماريّة أو اقتصاديّة للجزائر، لكنّه بالمقابل يُمكن أن يُصبح أحد ركائز المشروع العربيّ العزيز على قلب الرئيس تبّون، كما أنّ بيروت باستعادة اشعاعها الثقافي والنهضوي بمساعدة الجزائر، تشكّل ساحة تنافس فعليّ مع فرنسا، ناهيك عن الدور الذي تستطيع الجاليّة اللُبنانية في إفريقيا والعالم أن تلعبه في سياق التنسيق اللُبنانيّ الجزائريّ</p> <p> </p> <p>. فتشييد أكبر مجمّع ثقافي جزائري في قلب بيروت قريبًا ليس أمرًا عابرًا. هذه أول زيارة لرئيس لُبناني إلى الجزائر منذ 25 عامًا ( وهذا تقصيرٌ مستغرب فعلاً)، وهي تأتي في ظل انتعاش مشروع إسلامي في الجوار السوري من النوع الذي يقلق الجزائر، وفي ظل توسّع الأطماع الإسرائيلية في لبنان وسوريا بعد فلسطين، وهي الأطماع التي تقف الجزائر ضدّها منذ استقلالها، ولم تتوان تاريخيًّا عن إرسال جزء من جيشها للقتال إلى جانب العرب في حرب 1973.</p> <p> </p> <p>كما أن الرئيس تبّون نفسه سعى جاهدًا لعقد أول مصالحة فلسطينية حقيقيّة على أرض الجزائر، لكنَّ ثمَّة من سارع لإفشال هذا المشروع. ولعلَّ الجزائر تطمح إلى أبعد من ذلك اليوم بشأن جامعة الدول العربية والتصويت في مجلس الأمن. يستطيع لبنان الناهض من كبواته، الاعتماد على الجزائر في أكثر من قطاع وملف، وتستطيع الجزائر أن تعزّز حضورها المشرقي من بوابة بيروت، ومشروعها العربي الطموح. هي لحظة ممتازة للتعاون، وسيسمع الرئيس عون الكثير ممّا توقّعه أو لم يتوقّعه عن استعداد إدارة الرئيس تبّون لمساعدة لُبنان على النهوض وعلى نحو أوسع بكثير من آمال لُبنان. فلا يوازي الأنفة الجزائريّة سوى عمق الحبّ الجزائريّ للُبنان وشعبه.</p> <p> </p> <p>سامي كليب</p>
ليبيا: هل يُهدد تحالف حفتر – تركيا السلام الإقليمي؟
2025-07-20 09:21:00

<h2><strong>بينما يتراجع الملف الّيبي إلى خلفية الصورة في الأولويات الجيوسياسية العالمية، يتبلور تحالف غير متوقّع بين المشير خليفة حفتر، قائد المنطقة الشرقية، وتركيا. هل هو تحالف خطير؟ الأمر يتوقّف على زاوية النظر.</strong></h2> <p> </p> <p>ولّت الأيام التي كانت تتدخل فيها تركيا في ليبيا للدفاع عن طرابلس ضدّ الهجمات المتكررة التي شنّها المشير حفتر وجيشه الوطني الليبي. من اتفاقيات استخباراتية، إلى آلاف الطائرات المسيّرة الحديثة، وصولًا إلى نشر المرتزقة سوريين والجنود الأتراك بين مصراتة وسرت: لم تبخل أنقرة بأيّ شيء للحفاظ على حالة الجمود (التوازن؟) في ليبيا.</p> <p>صحيح أن تركيا كسبت بالمقابل منفذًا مميّزًا إلى السوق الليبية. من المواد الأساسية إلى الأسلحة الخفيفة لميليشيات طرابلس، وحتى الاتفاقيات المثيرة للجدل بشأن الحدود البحرية، استفاد رجب طيب أردوغان كثيرًا من هشاشة حكومة طرابلس لفرض التجارة التركية داخل ليبيا. والأهم من ذلك، أنّ الزعيم التركي نجح في زرع أجندته الايديولوجيّة المبهمة في ليبيا: إسلامي–إخواني، مؤيد لقطر، حليف للولايات المتحدة، داعم لفلسطين، ولكنه لا يمانع التعامل مع الكيان الصهيوني… يبدو في النهاية أن الإيديولوجيا تنحني دائمًا أمام المصالح الاقتصادية والجيوسياسية.</p> <p>في الواقع، تسير تركيا منذ فترة في الاتجاه المعاكس في الملف الليبي. مصالحها بدأت تتقاطع تدريجيًا مع مصالح أعداء الأمس – أي معسكر حفتر وحلفائه الإقليميين. البداية كانت في عام 2024، عندما أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، عن قرب تطبيع العلاقات مع "الجيش الوطني الليبي" لحفتر. وبعدها بفترة قصيرة، وقّع بلقاسم، نجل خليفة حفتر، عشرات العقود مع شركات تركية في إطار "صندوق إعادة إعمار ليبيا". وفي نهاية نفس العام، التقى صدام حفتر بوزير الداخلية الليبي (من الغرب) عماد الطرابلسي في إسطنبول. ثم، في مطلع 2025، استقبل رئيس أركان الجيش التركي، سلجوق بيرقدار أوغلو، وفودًا من الشرق والغرب الليبي، الواحدة تلو الأخرى.</p> <p>من المؤكد إذًا أن تركيا "تلعب على الحبلين" في ليبيا، مستفيدة من اللامبالاة الأوروبية. ومع ذلك، لم يحصل أيّ تقارب حقيقي بين طرابلس وبنغازي برعاية تركية. فباستثناء تعزيز حضورها لدى جميع الأطراف الليبية، ماذا تفعل تركيا حقًا في ليبيا؟</p> <p> </p> <p><strong><u>التوتّر مع اليونان: الغاز، الهجرة، ومناورات تركيا الغامضة</u></strong></p> <p> </p> <p>في جنوب جزيرة كريت اليونانية، تتنافس شركتا إكسون موبيل وشيفرون الأمريكيتان على حقوق التنقيب عن الغاز. وتمتدّ الحقول المستهدفة حتى المياه الليبية، متقاطعة مع المناطق البحرية المتنازع عليها بين تركيا واليونان. إنها المنطقة الاقتصادية الخالصةالتي أُنشئت بموجب الاتفاق الموقّع بين طرابلس والسلطات التركية عام 2019.</p> <p>لطالما رفضت اليونان هذا الترتيب بحجّة أن حكومة فايز السراج، عند توقيع الاتفاق البحري، لم تكن حكومة شرعية. لكن اليوم، ومع الاعتراف الدولي بحكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، والحياد الضمني من بنغازي، يتهاوى الادعاء اليوناني. فعليًا، لم يتبقّ سوى موافقة حفتر حتى تدعم ليبيا بأكملها الطموحات التركية في شرق المتوسط.</p> <p>وبذلك، تجد السلطات اليونانية نفسها في موقف حرج. فهي ترفض السماح لشركة شيفرون بالتنقيب قبالة سواحل كريت طالما لم يُحسم ملف المنطقة الاقتصادية الخالصة. ولكن شركة شيفرون، التي كانت سابقًا طرفًا في الوساطة بين مؤسسة النفط الوطنية (التابعة لحكومة الوحدة) وشركةArkenoOil(المملوكة لعائلة حفتر)، لم تقل كلمتها الأخيرة بعد.</p> <p>منذ مارس، بدأ آلاف المهاجرين القادمين من ليبيا بالوصول إلى السواحل اليونانية، و سواحل كريت بالتحديد. ففي نهاية الأسبوع الماضي وحدها، تم اعتراض أكثر من 2000 مهاجر في الجزيرة. وتأتي هذه الضغوط المفاجئة في وقت كانت فيه اليونان تحاول التوصّل إلى اتفاق أمني مع ليبيا حول مسألة الهجرة، من دون أن تفترض وجود صلة مباشرة بصفقة الغاز المعطّلة مع شيفرون.</p> <p>الحدث الأكثر رمزية وقع في 8جويلية: وفد يقوده مفوّض الهجرة للاتحاد الاوروبي، ماغنوس برونر، ووزير الخارجية اليوناني، يورغوس غيرابيتريتيس، تم منعه من مغادرة مطار بنغازي. كانوا ينوون لقاء خليفة حفتر، لكنه تجاهلهم وطردهم بشكل علني. وهو مؤشر لا يمكن تجاهله: إنه يعكس التحولات الجديدة في علاقة الجيش الوطني الليبي مع تركيا والاتحاد الأوروبي. والأهم، أن إهانة الوفد الأوروبي تؤكّد أن ملف الهجرة لا يزال أداة ضغط جيوسياسية فعالة.</p> <p>بالنسبة لتركيا، فإن المكاسب الممكنة من التحالف مع حفتر هائلة. إذ إن أنقرة قد تتمكن من فتح أسواق جديدة لمصنّعي الأسلحة الاتراك، وتوسيع نفوذها على الأراضي الليبية، من موانئ طرابلس إلى قواعد سرت وبنغازي. كما سيسمح لها ذلك بتأمين وجودها في جنوب المتوسط، الذي تراجع مع سقوط الأنظمة الإخوانيّة في مصر وتونس، بالإضافة إلى تعزيز موقعها في المفاوضات حول تدفّق الطاقة نحو أوروبا.</p> <p>وقبل كل شيء، فإن هذا التموقع سيجعل من تركيا طرفًا لا غنى عنه في أي اتفاق ليبي داخلي أو في العلاقة بين ليبيا وأوروبا. فهي ستصبح بوابة إلزامية، سواء في مسار الانتقال السياسي الليبي، أو في إدارة ملف الهجرة. ويأتي تقارب حفتر مع تركيا في وقت تعجز فيه أوروبا عن تقديم بديل فعّال في ليبيا، بعد أن أضعفتها انقساماتها بشأن أوكرانيا، وانحيازها لمحور واشنطن–تل أبيب، وخروجها المُذلّ من جميع الملفات الإفريقية. ولا بد هنا من التذكير بدور فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة في تفاقم الأزمة الليبية.</p> <p> </p> <p><strong><u>إهتزاز التوازنات في ليبيا... والجزائر وروسيا تتموضعان</u></strong></p> <p> </p> <p>لم يصدر عن روسيا أيّ ردّ فعل علني بخصوص التقارب بين حفتر وتركيا، لكن كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ موسكو كانت مؤيّدة لهذا التقارب. فانسحاب مجموعة فاغنر من مالي، وإعادة نشر المستشارين العسكريين الروس في ليبيا، يوحيان بأنّ عملية إعادة التموقع جارية بالفعل. وفوق ذلك، من الصعب تصوّر أن يتحالف حفتر علنًا مع تركيا دون إبلاغ داعميه الروس.</p> <p>وفي المقابل، قد تحافظ روسيا على مواقعها في الحقول النفطية بشرق ليبيا، بل وقد تضمن إنشاء قاعدة بحرية دائمة في طبرق. فوفقًا لتقرير صادر عن مجمع التفكير The Soufan Center، فإنّ السفن الروسية كثّفت زياراتها لميناء طبرق العسكري الخاضع لسيطرة حفتر. ووفقًا لوكالةAgenzia Nova، تسعى موسكو إلى إنشاء قاعدة عسكرية في سبها، بدعم من حفتر، تُمكّنها من الحفاظ على توازن استراتيجي مقابل أنقرة، وأيضًا من نشر صواريخها على بُعد أقلّ من 1000 كلم من أوروبا.</p> <p>الأكثر إرباكًا هو ما يحدث في السودان: فحفتر يدعم "قوات الدعم السريع" في هجومها على الجيش السوداني منذ أشهر، وهذه القوات بدورها على صلة مباشرة بمجموعة فاغنر الروسيّة. ممّا يعني أن التحالف الموضوعي بين بنغازي وموسكو ليس غامضًا كما يبدو، ولا يتعارض – في الظاهر على الأقل – مع مصالح تركيا وطموحاتها.</p> <p>ومع ذلك، فإن كانت الحركية التركية في ليبيا تتفادى الاحتكاك المباشر مع روسيا، فإنّ الأمر يختلف مع الجزائر، الحليف الأول لموسكو في منطقة المغرب العربي. فالجزائر، التي تعلن حيادها الرسمي في الخلافات الداخلية الليبية، لا تنظر بعين الرضا إلى الوجود التركي على حدودها الشرقية، خاصة إذا ترافق مع عودة محور حفتر – مصر.</p> <p>لكن نفوذ بنغازي يتجاوز حدود ليبيا. ففي ماي الماضي، استُقبل صدام حفتر في النيجر – بحفاوة كبيرة – وذلك بعد أيام قليلة من توقيعه اتفاقيات دفاعية في أنقرة. وفي نفس الفترة، قامت بعثة تركية بتفقّد منطقتي غدامس وغات الحدوديتين مع الجزائر، بهدف إنشاء قاعدة جوية دائمة في غرب ليبيا.</p> <p>هذه التطوّرات قد تُربك مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء نيجيريا – الجزائر (NIGAL)، الذي كان يعوّل على شراكة – متعثّرة – مع شركة الغاز الروسية "غازبروم"، وعلى علاقات دبلوماسية وثيقة في النيجر وغرب ليبيا. ومن الواضح أنّ صمت الجزائر الحالي يهدف إلى الحفاظ على حسن علاقاتها مع روسيا، وتجنّب مواجهة مباشرة وغير مدروسة مع تركيا. فحدود ليبيا تمثّل أصلاً تحديًا أمنيًا واقتصاديًا محوريًا للجزائر.وفوق كل ذلك، لا شيء يضمن أن تركيا تعمل فعلاً من أجل توحيد بنغازي وطرابلس. وهذه الاخيرةتُعدّ "خطًا أحمر" للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. ثم إنّ الجزائر لن تقبل أبدًا بإعادة توجيه المحور الغازي الافريقي نحو شرق المتوسط، لصالح تركيا التي تتجاوز عادة في طموحاتها قدراتها الواقعية، وحدودها أحيانا.</p> <p>وعليه، فإنّ الديناميكية التركية في ليبيا لا يمكن إلا أن تثير القلق. والخاسر الأكبر سيكون – من دون شك – أوروبا، التي سترى نفوذها الدبلوماسي ينهار نهائيًا في ليبيا لصالح أطراف لا تتقاطع مصالحهم الإستراتيجية بعيدة المدى مع مصالح القارة العجوز. شيء واحد مؤكّد: إنّ ليبيا ما بعد القذافي ما زالت تتشكّل، وكما هو الحال في أغلب الأحيان، فإنّ ملامح المرحلة القادمة يرسمها الصمت الإقليمي و تخطّها الحسابات الأجنبية.</p> <p> </p> <div> <p>بقلم: نزار الجليدي كاتب و محلل سياسي</p> </div> <div class="d-lg-flex"> </div>
