تباين في الطرق المتخذة لإذلال الجزائر بين ماكرون ورئيس وزراءه
2025-03-07 20:10:00

<p>يبدو أن التهديدات التي أطلقها كبار المسؤولين في حكومة ماكرون مؤخرا ضد الجزائر والمتعلقة بإلغاء اتفاقيات الهجرة المبرمة بين البلدين سنة 1968 لم تكن مجرد تصريحات عابرة، بل وصلت لدرجة التنفيذ وطالت عدة شخصيات دبلوماسية جزائرية وعائلاتهم. <br />ففي الفاتح من مارس الجاري، أعطى وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، تعليمات لمصالح شرطة الحدود بطرد زوجة سفير الجزائر بمالي، إذ تم منعها من دخول التراب الفرنسي بحجة أنها لا تملك القدر الكافي من المال لتسديد مصاريف إقامتها.<br />ولم تكن هذه الحالة الوحيدة التي قوبلت بالطرد، تنفيذا للقرارات التي أصدرها رئيس وزراء فرنسا ووزير خارجيتها أواخر فبراير الفارط والتي تتعلق بفرض "إجراءات تقييدية على حركة ودخول الأراضي الفرنسية تطال بعض الشخصيات الجزائرية"، بل تعدت لتشمل شخصيات دبلوماسية أخرى، حيث تم منع المدير السابق للديوان الرئاسي الجزائري، عبد العزيز خلاف وشخصية أخرى رفيعة المستوى من الدخول للأراضي الفرنسية. <br />وفي أول تعليق له على هذه الإجراءات الخطيرة اتجاه المسؤولين الجزائريين، كشف برونو خلال مقابله مع صحيفة لوفيغارو في ٢ مارس، شروع بلاده في تنفيذ قرارات رئيس الوزراء، والتي تشمل منع الجزائريين الحاملين لجواز سفر دبلوماسي من الدخول إلى الاراضي الفرنسية. وأكد الأخير أن سلطات بلده طردت بالفعل جزائريين لدى وصولهم إلى مطار رواسي بضواحي العاصمة الفرنسية في سياق تفعيل هذه القرارات. <br />وأردف "هذا الرد التدريجي هو الأكثر فعالية، لأنه يسمح أولاً باتخاذ تدابير فردية، لا سيما ضد أعضاء من النخبة الجزائرية".<br />وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أطلق تصريحات خلال زيارته للبرتغال في ٢٨ الشهر الفارط، أشار من خلالها بأن اتفاقيات الهجرة بين البلدين "لا يجب أن تلغى ولكن يفضل مراجعتها مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون". ومع ذلك فقد وضع ماكرون شرطا أساسيا للتفاوض مع الحكومة الجزائرية حول هذه المسألة، والمتمثل في إطلاق سراح الكاتب الفرانكو- جزائري بوعلام صنصال الذي اعتقلته السلطات الجزائرية نوفمبر الفارط لتورطه في المساس بسلامة التراب الوطني. <br />ولم يكتفي وزير الداخلية الفرنسي بهذا القدر من الإستفزازات والإذلال اتجاه الجزائر، بل تعدى إلى إطلاق سلسلة من التهديدات خلال مقابلة له مع قناة “بي. آف. آم. تي.في” و”آر. آم. سي”، ٤ مارس من هذا الشهر، قال فيها أن بلاده أعدت قائمة تضم أسماء "مئات" من الرعايا الجزائريين ذوي "الملفات الخطيرة" ترغب باريس في إعادتهم إلى بلادهم، وأضاف بأن حكومته ستقوم بتسليمها لنظيرتها الجزائرية. كما هدد بفرض عقوبات صارمة على شركة الطيران الجزائرية "الخطوط الجوية الجزائرية" متهما إياها في التقاعس في ترحيل المهاجرين الغير شرعيين. <br />وتجدر الإشارة أنه عقب الإجتماع الوزاري الخاص بملف الهجرة، والذي انعقد 26 من فبراير الفارط، أعطى رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، الجزائر مهلة بين 4 و6 أسابيع لإظهار ليونة في قضية استقبال مهاجريها غير الشرعيين وإلا سيتم إلغاء اتفاقيات 1968 المنظمة للهجرة بين البلدين. <br />ومباشرة عقب تصريحات وزير الداخلية الفرنسية، واستنادا إلى ما أوردته “لوفيغارو” الاثنين الفارط، فإن الرئيس الفرنسي أكد في تواصل حصري معها، أن إلغاء اتفاقيات الهجرة مع الجزائر قرار يعد إصداره من صلاحيات رئيس البلاد فقط. <br />وقد أثارت تصريحات ماكرون انتقادات واسعة من جانب التجمع الوطني، الذي اتهم ماكرون بالفشل في اتخاذ إجراءات حاسمة ضد نفوذ الجزائر، مما أثار الشكوك لدى العديد من نواب البرلمان حول قدرته على قيادة البلاد. كما انتقد المتحدث باسم التجمع الوطني، سيباستيان شينو، نهج ماكرون الحذر، مؤكدا أنه من العار أن يخشى الرئيس رد فعل عنيف محتمل من الشتات الجزائري. <br />ودارت نقاشات حادة داخل البرلمان الفرنسي حول إيجاد أفضل السبل لتعزيز موقف فرنسا بشأن سياسة الهجرة، وخاصة بعد فشل الجهود لطرد التهديدات المتعلقة بالمهاجرين الجزائريين غير الشرعيين. <br />كما شككت أحزاب أخرى قدرته على إدارة سياسات الهجرة بشكل فعال، خاصة وأن الفشل في طرد الجزائريين المجرمين أدى إلى مأساة مولوز.<br />من ناحية أخرى، أعرب السيناتور ماكس بريسون عن إحباطه إزاء عجز الحكومة الفرنسية إلى اتخاذ تدابير حازمة تجاه الجزائر.<br />ويرى بعض الخبراء بأن تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة لا تهدف الى تهدئة الاوضاع بين البلدين كما تروج له بعض وسائل الإعلام الفرنسية، وإنما يسعى من خلالها لإظهار قدرته على التحكم في قرارات بلاده، خاصة بعد الانتقادات التي وجهت اليه في الأشهر القليلة الماضية والتي وصفته بالفاشل في تسيير أمور البلاد وخاصة قضية الهجرة. وأضاف نفس الخبراء، أن ماكرون يريد فرض شروطه على الحكومة الجزائرية من خلال إجبارهم على إسقاط التهم عن بوعلام صنصال، وهذا يمس بشكل كبير بسيادة الجزائر و كرامتها على الساحة الدولية.<br />وتأتي هذه التداعيات في سياق متواصل من أزمة سياسية ودبلوماسية حادة بين البلدين، بدأت في يناير/كانون الثاني 2023، بسبب رفض الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون زيارة باريس، وتفاقمت في يوليو/تموز 2024 بعد إعلان باريس دعم مبادرة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء، ما دفع الجزائر إلى سحب سفيرها من باريس وخفض التمثيل الدبلوماسي، وتعقدت أكثر بعد توقيف السلطات الجزائرية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال، ورفض الجزائر استقبال رعاياها المبعدين من التراب الفرنسي، بينهم منفذ هجوم أسفر عن مقتل شخص في 22 شباط/فبراير في مدينة مولوز في شرق فرنسا.</p> <p><strong>الدكتور محمد صادق .. الكاتب والباحث في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية</strong></p>
المجتمع المدني الجزائري بين التمكين والتعبئة الاستراتيجية
2025-07-08 21:15:00

<p><strong>في ظرف وطني وإقليمي دقيق، يعيش فيه المجتمع المدني تحولات نوعية بين ضغط التحديات وانتظارات الدولة، جاء تنظيم كل من الجامعة الصيفية للمجتمع المدني ومهرجان المرأة الصحراوية... ذاكرة، هوية ونضال تحت إشراف المرصد الوطني للمجتمع المدني، ليؤكد أن الفعل الجمعوي في الجزائر لم يعد هامشيًا، بل بات جزءًا أصيلاً من الرؤية الاستراتيجية للدولة في تمتين الجبهة الداخلية وبناء الدبلوماسية الشعبية الناعمة.</strong></p> <p> </p> <p><strong>أولاً: الجامعة الصيفية... تكوين الأدوار وإعادة هندسة الوظائف الجمعوية</strong></p> <p> </p> <p>لقد مثلت الجامعة الصيفية، المنظمة عبر ثلاث محطات ساحلية، لحظة تأطيرية بامتياز لفواعل المجتمع المدني، بما حملته من تنوع في الفئات (جمعيات، مؤثرون، أساتذة جامعيون، إعلاميون...)، وتعدد في المضامين التكوينية والورشات التطبيقية.</p> <p> </p> <p><strong>من التنشيط إلى التمكين:</strong></p> <p>أظهرت هذه المبادرة أن الدولة انتقلت من التعامل مع الجمعيات كفاعل موسمي إلى التعويل عليها كركيزة في مواجهة تحديات السيادة، والمواطنة الرقمية، والوقاية من التهديدات الاجتماعية والثقافية.</p> <p>. التمكين هنا لم يكن فقط معرفيًا بل استراتيجيًا، بتوسيع مجالات الفعل المدني وربطه بالتحديات الكبرى للأمة.</p> <p>المجتمع المدني كفاعل في الأمن الثقافي:</p> <p>لقد تم الاشتغال بذكاء على موضوعات "الذاكرة الوطنية"، و"حروب الجيل الخامس"، و"تزييف التاريخ"، بما يجعل من المجتمع المدني حاجزًا رمزيًا في مواجهة الاختراقات السردية، لا سيما من قبل المنظومات المعادية التي تحاول تفكيك التماسك الوطني من الداخل.</p> <p>. المرأة والمشاركة الحقيقية:</p> <p>أحد أوجه القوة في هذه الجامعة هو التركيز على دور المرأة في التنمية وصنع القرار، ليس فقط كشعار بل كمحور للنقاش والتفكير الاستراتيجي، ما يرسخ منظورًا جديدًا للنوع الاجتماعي داخل الحركة الجمعوية الجزائرية.</p> <p><strong>ثانيًا: مهرجان المرأة الصحراوي</strong>ة... حين تُصبح الثقافة وسيلة مرافعة جاء مهرجان "المرأة الصحراوية: ذاكرة، هوية ونضال"، في مستغانم، ليُظهر كيف يمكن للمجتمع المدني أن يتحول إلى أداة مرافعة ناعمة عن القضايا العادلة، في انسجام تام مع الثوابت السياسية للجزائر، وفي مقدمتها دعم حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.</p> <p>المرأة الصحراوية كنموذج صمود: لقد تم إبراز دور المرأة الصحراوية في مسار التحرر، وفي بناء مؤسسات الدولة الصحراوية، ليس من منطلق إنساني فقط، بل كفاعل سياسي وحقوقي يملك شرعية التاريخ وراهنية الخطاب. وهذا يُعد توظيفًا استراتيجيًا للهُوية في بناء سردية بديلة للخطاب المخزني المهيمن.</p> <p>الثقافة كأداة مقاومة: من خلال المعارض الفنية، الورشات الإعلامية، والمهرجانات الخطابية، تم توظيف الثقافة كجبهة ناعمة في الصراع، وإيصال رسالة إلى الرأي العام الجزائري بأن القضية الصحراوية ليست فقط مسؤولية الدولة، بل هي مسؤولية الوعي الجمعي أيضًا.</p> <p>الجبهة الداخلية الممتدة: إن إشراك المجتمع المدني الصحراوي إلى جانب الجزائري، وبمرافقة شعبية واسعة، يؤسس لما يمكن تسميته بـ"الجبهة المدنية المغاربية"، حيث تتوحد الشعوب حول قيم المقاومة، والعدالة، والحرية.</p> <p><strong>ثالثًا: المرصد الوطني للمجتمع المدن</strong>ي... من الملاحظة إلى الفعل المؤسس إن ما يُحسب للمرصد الوطني للمجتمع المدني، تحت قيادة الدكتورة ابتسام حملاوي، هو قدرته على الانتقال من الدور الاستشاري إلى الدور التأطيري والتنسيقي، مع الالتزام بالرؤية الوطنية في بعدها الاستراتيجي.ث</p> <p>قد أصبحنا أمام مؤسسة وطنية تجمع بين: التأطير والتكوين التعبئة والمرافعة الوساطة بين الدولة والفاعلين المدنيين هذا التحول اعتقد أنه يعكس ثقة متزايدة من الدولة في نضج المجتمع المدني، ورغبة واضحة في خلق بيئة مدنية فاعلة، وآمنة، ومنتجة.</p> <p><strong>ختامًا</strong>: من لحظة تنظيمية إلى مسار دائم المبادرتان ليستا مجرد حدثين مناسباتيين، بل هما علامتان فارقتان في هندسة جديدة للفعل المدني في الجزائر، وفتح لمسارات بديلة لتثبيت الانتماء، وتعزيز الجاهزية المجتمعية، في ظل عالم متحول وسياقات إقليمية مضطربة.(...).</p> <p>فعلًا، نحن أمام مجتمع مدني جديد... مدني في روحه، ووطني في التزامه، واستراتيجي في أدواته. توصيات راهنية لتعزيز أدوار المجتمع المدني:</p> <p>مأسسة المتابعة والتقييم بعد الفعاليات الكبرى: ضرورة إنشاء آليات تقييم دوري لمخرجات الجامعة الصيفية والمهرجانات الموضوعاتية، لضمان الاستمرارية وتحويل التعبئة الظرفية إلى تأثير طويل المدى، سواء عبر تقارير دورية، أو وحدات تتبع داخل المرصد. خلق شبكات فكرية – ميدانية بين الفاعلين المدنيين والجامعيين:</p> <p>تشجيع إقامة شبكات بحثية وتكوينية تضم أساتذة الجامعات وفاعلين جمعويين، تعمل على إنتاج معرفة تطبيقية حول التحديات المجتمعية وتدعم اتخاذ القرار الجمعوي بناء على بيانات دقيقة.</p> <p>تعزيز مشاركة المجتمع المدني في مناطق الظل والجنوب الكبير: لضمان عدالة تمثيلية وفعلية، يُوصى بتوسيع الأنشطة التكوينية للمجتمع المدني نحو ولايات الجنوب والهضاب، ودمج الجمعيات الناشئة في مسارات التأطير والتمكين.</p> <p>إنشاء منصات وطنية للمرافعة الرقمية المدعومة علميًا: إطلاق منصات أو مجمعات محتوى رقمي توظف صناع المحتوى، بدعم أكاديمي وإشراف مؤسساتي، للدفاع عن القضايا الوطنية (مثل القضية الصحراوية، السيادة الغذائية، الذاكرة) باستخدام أدوات الميديا الحديثة. تشجيع البحث السوسيولوجي التطبيقي حول المجتمع المدني:</p> <p>إدراج مواضيع المجتمع المدني كأولويات الأمن الاجتماعي، والتنمية المستدامة، والهوية.</p> <p>ا.د ناجح مخلوف: أستاذ باحث في علم الاجتماع جامعة المسيلة ورئيس جمعية وطنية</p>
القمة الأمريكية الإفريقية لترامب... بين الغنم والغنيمة
2025-07-07 11:14:00

<h3><strong>في الفترة من 9 إلى 11 جويلية الجاري، يستقبل البيت الأبيض رؤساء ليبيريا، غينيا بيساو، السنغال، موريتانيا والغابون. فهل هي دعوة أم استدعاء؟ الحراك الدبلوماسي لدونالد ترامب في افريقيا يبدو في خطواته الأولى، لكنه لا يخلو من رسائل واضحة.</strong></h3> <p> </p> <p>القمة الإفريقية المصغّرة، التي ستُعقد قريبا في العاصمة الأمريكية واشنطن، تأتي في سياق تحضيرات إدارة ترامب لقمة إفريقية–أمريكية أوسع مقرر تنظيمها في سبتمبر المقبل. لكن الأجندة تتجاوز هذا الموعد، إذ تدلّ المؤشرات إلى رغبة أمريكية حثيثة في إعادة ترتيب التوازنات في النصف الجنوبي للقارة الإفريقية.</p> <p>وليس الأمر مجرّد نزوة جديدة للرئيس ترامب، يحاول فيها تقمّص شخصية بسمارك. فالتفاصيل المرتبطة بهذا اللقاء، الذي سيجمع ترامب بخمسة رؤساء أفارقة، تثير أكثر من علامة استفهام. من جهة، جاء إلغاء دعوة ساحل العاج في اللحظة الأخيرة متزامنًا مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية هناك. ويبدو أن واشنطن لا تفضّل دعم الرئيس الحسن واتارا، الذي يُنظر إليه على أنه أقرب إلى الأوروبيين منه إلى الأمريكيين، وذلك رغم نفوذه الدبلوماسي وحاجته للتاييد الامريكي . هذا التوجه ليس معزولًا عن سياق اللقاء، بل يتكرّر في أكثر من زاوية. فالرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي دُعي أساسًا بصفته الرئيس السابق للاتحاد الإفريقي (حتى فبراير الماضي)، يبدو أنه اختير للعب دور الوسيط أو الضامن لتوازن اللقاء، في مواجهة أي تضارب محتمل في المصالح بين الحاضرين.</p> <p>في المقابل، يتشارك بقية الضيوف – جوزيف بواكاي (ليبيريا)، باسيرو فاي (السنغال)، أومارو سيسوكو إمبالو (غينيا بيساو) وبريس أوليغي نغيما (الغابون) – في طموحات دبلوماسية واضحة. كما أن دبلوماسياتهم تحظى بعلاقات مستقرة مع أغلب دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتبدو منفتحة بشكل صريح على تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة، سواء للخروج من العباءة الأوروبية التقليدية، أو لتوجيه رسائل تذكير لكل من الصين وروسيا، المتّهمتين باهمال التزاماتهما في القارة منذ حوالي عامين. لكل من هذه الدول أجندته الخاصة، لكن الطموح المشترك حاضر.</p> <p>أما في الولايات المتحدة، فتتناول وسائل الإعلام عشرات السيناريوهات المحتملة. بين الضغط على النفوذ الصيني في غرب إفريقيا، ومكافحة شبكات تهريب المخدرات، وتعزيز اتفاق السلام الأخير بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، أو حتى مجرد استعراض دبلوماسي "على طريقة ترامب"، في كل الاحوال تسعى إدارة الرئيس الأمريكي إلى صرف الأنظار عن تدخلاتها الأخيرة في الشرق الأوسط (دعم إسرائيل ضد إيران) وأوروبا الشرقية (تخليها عن أوكرانيا).</p> <p>فهل يمثّل هذا اللقاء بداية لإعادة صياغة الأجندة الدبلوماسية لترامب؟ أم أن القارة الإفريقية تحوّلت ببساطة إلى ساحة انتصار سهلة المنال؟ بالنظر إلى حجم التحضير والزخم السياسي، قد تكون الإجابة أكثر تعقيدًا مما يبدو.</p> <p> </p> <p><strong>ما اكثر الخلّان حين تعدهم...</strong></p> <p> </p> <p> </p> <p>يُعدّ دونالد ترامب أول رئيس أمريكي من الحزب الجمهوري ينظم قمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وإفريقيا، رغم تاخرها. فخلال ولايته الأولى، لم يزر القارة سوى مرة واحدة. بل إن علاقاته مع إفريقيا كانت تتسم بنوع من الاحتقار، إلى درجة أنه وصف الدول الإفريقية بأنها «دول قذرة». حتى سفاح العراق جورج دبليو بوش قام بعشر زيارات رسمية إلى إفريقيا، وكان أكثر احترامًا في خطابه و اقل سملجة في سلوكه من ترامب. ورغم هذا الماضي، فإن ترامب اليوم يبني استراتيجيته الإفريقية على ما أسس له الرئيس الأمريكي السابق بايدن، الذي عيّن عددًا كبيرًا من السفراء في الدول التي تجاهلها ترامب خلال ولايته الاولى.</p> <p>بمعنى آخر: اهتمام ترامب بإفريقيا جنوب الصحراء جديد، ولا ينسجم كثيرًا مع نهجه المعروف.</p> <p>ومع ذلك، فإن الدفع نحو تموضع دبلوماسي جديد في القارة السوداء قد يدرّ أرباحًا كبيرة على البيت الأبيض. على سبيل المثال،اتفاق السلام حديث العهد بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، والذي أُشرف عليه مباشرة من قبل ترامب، يبدو مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بحقوق استخراج المعادن في المنطقة الحدودية بين الدولتين. ووفقًا لمعهد الولايات المتحدة للسلام (USIP)، فإن واشنطن «ستستثمر بشكل أساسي في الحزام الغني بالكوبالت والنحاس شرق الكونغو الديمقراطية». لكن ماذا يعني "الاستثمار" فعلًا؟ لا أحد يعلم. فالاتفاق غير منشور، وتفاصيله غامضة عمدًا. حتى توقيعه، الذي رُوّج له محليًا في الإعلام الأمريكي، مرّ دون اهتمام يُذكر على الصعيد الدولي.</p> <p>لذا، من غير المستبعد أن تُسفر القمة المقبلة مع القادة الأفارقة عن صفقات أخرى بذات الطابع الخفي، او بالأحرى المريب. أما القمة الإفريقية–الأمريكية في سبتمبر، فستكون – على الأرجح – مناسبة احتفاليّة "لعودة النفوذ الأمريكي في افريقيا".</p> <p>ولا بد من التذكير هنا بأن الصين منذ بدء سلسلة الانقلابات في منطقة الساحل، تخلّت عمليًا عن عدد من مشاريعها الكبرى في غرب إفريقيا. أما روسيا، ومنذ انشغالها بالحرب في أوكرانيا، فقد خفّف ممثلها "فاغنر" من حضوره في القارة. وقد أعلن هذا الأخير، مؤخرًا، انسحابه الكامل من مالي، مؤكدًا أنه "أنجز أهدافه" في "القضاء على الوجود الإرهابي". وهو تصريح لا يخلو من الشك لغرابة توقيته.</p> <p>في جميع الأحوال، يظل سياق هذا اللقاء – كمقدمة لما يُعرف بقمة إفريقيا–الولايات المتحدة – غامضًا، خاصة في ضوء المواقف الأمريكية الأخيرة تجاه القارة. فمنذ بداية ولايته الثانية، أوقف ترامب غالبية برامج المساعدات المقدّمة للدول الإفريقية، كما فرضت واشنطن حظرًا على دخول مواطني 12 دولة إفريقية إلى أراضيها. واليوم، لا تزال الإدارة الأمريكية تدرس إضافة 26 دولة إفريقية أخرى إلى قائمة حظر السفر المقبلة، التي سوف تضم 36 دولة.</p> <p> </p> <p><strong>...لكنهم في النائبات قليل</strong></p> <p> </p> <p> </p> <p>تعكس سياسة شد الحبل هذه جانبًا مألوفًا من الدبلوماسية الخشنة التي ينتهجها دونالد ترامب. وقد أثارت قراراته في حظر السفر استياءً واسعًا لدى بعض الدول الإفريقية، على غرار تشاد، التي ردّت بإجراء مماثل ضد المواطنين الأمريكيين. في المقابل، فضّلت دول أخرى، مثل مالي وليبيا، عدم الخوض في هذا الملف. أما منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فقد اعتبرت أن قرار حظر السفر الشامل لا يعدو كونه "إجراءً جديدًا مناهضًا للهجرة" من توقيع ترامب، بينما وصفت منظمة العفو الدولية هذه السياسات بأنها "تمييزية، عنصرية، وقاسية إلى أبعد حد".</p> <p>ومع ذلك، يبدو أن استراتيجية التخويف التي يعتمدها ترامب قد تؤتي أُكُلها. فالتحرك الدبلوماسي الأمريكي جرى ترتيبه بعناية. ومن الإنصاف القول إن ترامب، سواء في ملف أوكرانيا أو إيران، عرف دائمًا كيف يفاوض من موقع قوة. وإذا استمر في التزامه بنهجه المعتاد، فمن المرجح أن يطالب كل دولة مشاركة في القمة بتقديم تنازل واضح، مقابل تعويض رمزي أو محدود.</p> <p>فبالنسبة إلى الدول الحبيسة في غرب إفريقيا، قد تعرض واشنطن إقامة قواعد عسكرية جديدة مقابل تسهيلات تجارية. أما دول خليج غينيا، فلن يتردد ترامب في تحدي المصالح الفرنسية أو الأوروبية عمومًا في المنطقة، خاصة في ظل الشكوك المحيطة بمدى التزام الأوروبيين بتمويل حلف الناتو، كما تطالب به واشنطن. وبالنسبة إلى رؤساء الدول الذين سيحضرون الاجتماعات من 9 إلى 11 جويلية، فسيكون الأمر قبل كل شيء عرض قوة، يهدف إلى جسّ نبض "المزاج الإفريقي" قبل قمة قد تحمل في طياتها مفاجآت غير متوقعة.</p> <p>وهناك ملف آخر لا يقل أهمية بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية: اختبار ولاء ممثليها الدبلوماسيين في القارة، إلى جانب إعادة تثبيت الحضور السياسي الأمريكي في إفريقيا. فعلى مدى عقد من الزمن، اكتفى الأمريكيون بلعب دور الداعم الخلفي، تاركين الأوروبيين في واجهة الدفاع عن المصالح الجيوستراتيجية الغربية. والنتيجة كانت فشلًا ذريعًا: ففرنسا، التي كانت القوة العسكرية الغربية الأولى في الساحل الافريقي، طُردت من منطقة نفوذها، دولة تلو الأخرى، بفعل سلسلة من الانقلابات العسكرية. مالي، تشاد، غينيا، بوركينا فاسو، النيجر... كلها شهدت تصاعدًا ملحوظًا في الخطاب والإجراءات المناهضة لفرنسا اثر تفعيل حكم العسكر.</p> <p>ومن الواضح أن الولايات المتحدة تسعى اليوم إلى تحقيق هدفين في آن واحد: إعادة تثبيت الحضور الغربي في المنطقة، والاستفادة من المدّ المعادي لفرنسا لتحقيق بعض الأرباح الاقتصاديّة. ومع تراجع الحضور الروسي في بعض الدول، يبدو أن ترامب مصمم على اغتنام الفرصة. ويبقى السؤال: هل ستتكتّل الدول الإفريقية المشاركة في موقف موحّد؟ هل أنها، في لحظة وعي، قد تدرك أن ما يُقدَّم لها ليس أكثر من مطالب انتهازية في مرحلة قلّ فيها الحلفاء؟</p> <p> </p> <p>بقلم. نزار الجليدي كاتب و محلل سياسي</p>
